المرأة وركائز اقتصاد المعرفة

مقدمة

في العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، يشهد العالم تحولات عميقة في طبيعة الاقتصاد والنمو، حيث لم تعد الثروات تُقاس فقط بالموارد الطبيعية أو الإنتاج الصناعي، بل باتت المعرفة والمهارات ورأس المال البشري من أهم مصادر النمو والازدهار. يُعرف “اقتصاد المعرفة” بأنه الاقتصاد الذي يعتمد في نموه على إنتاج وتوزيع واستخدام المعرفة والمعلومات، بدلًا من الاعتماد على الموارد التقليدية. وفي خضم هذه التحولات، برز دور المرأة كفاعل أساسي ومؤثر في بناء هذا الاقتصاد، ليس فقط كمستهلكة أو متلقية للمعرفة، بل كمُنتجة لها وقائدة لمشاريع الابتكار والتغيير.

إن تمكين المرأة وتعزيز دورها في ركائز اقتصاد المعرفة لم يعد مسألة عدالة اجتماعية فحسب، بل أصبح شرطًا حتميًا لتحقيق التنمية المستدامة والتنافسية العالمية. ويُعد إشراك المرأة في منظومات التعليم، البحث العلمي، ريادة الأعمال، التكنولوجيا، وصناعة القرار من العناصر الحاسمة في بناء مجتمعات معرفية شاملة وقادرة على مواكبة تحديات العصر.

مفهوم اقتصاد المعرفة وخصائصه

اقتصاد المعرفة هو نظام اقتصادي تُعتبر فيه المعرفة المورد الأساسي للإنتاج والنمو. يركز هذا الاقتصاد على القدرات البشرية، التعليم، الابتكار، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ومن أبرز خصائص اقتصاد المعرفة:

• الاعتماد على المعرفة كمصدر رئيسي للثروة، حيث تُعد البيانات والمعلومات والمهارات من أهم عناصر الإنتاج.

• دور التكنولوجيا والابتكار كمحركين أساسيين للنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي.

• تحول المؤسسات من الهياكل الهرمية إلى المنصات الشبكية التي تعزز التفاعل وتبادل المعرفة.

• أهمية التعلم مدى الحياة والتدريب المستمر لمواكبة المستجدات المعرفية والتكنولوجية.

• الاندماج بين القطاعات المختلفة كالقطاعين العام والخاص والقطاع المدني، ما يُسهم في إنتاج معرفة متنوعة الأبعاد.

التحولات المجتمعية ومساحات مشاركة المرأة

مع تحوّل الاقتصاد العالمي إلى اقتصاد رقمي ومعرفي، بدأت المجتمعات في إدراك أهمية إشراك جميع أفرادها، بما في ذلك المرأة، في العملية التنموية. لم يعد بإمكان أي مجتمع تجاهل نصف موارده البشرية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمعرفة والابتكار. فقد ساهم ارتفاع معدلات التعليم بين النساء، وتزايد مشاركتهن في سوق العمل، ونمو الوعي بأدوارهن الاستراتيجية في إحداث التغيير، في إعادة تشكيل الأدوار التقليدية المخصصة لهن.

وباتت المرأة تشارك بفعالية في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية مثل التعليم العالي، التكنولوجيا، البحث العلمي، ريادة الأعمال، والاقتصاد الرقمي، مما ساهم في توسع قاعدة المعرفة وتنوعها، بما يضمن دمج وجهات نظر مختلفة تسهم في تطوير سياسات ومشاريع أكثر شمولًا وعدالة.

المرأة والتعليم كركيزة أساسية لاقتصاد المعرفة

يُعد التعليم القاعدة الأساسية التي تُبنى عليها كل ركائز اقتصاد المعرفة. وتُظهر الإحصاءات العالمية ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات التحاق النساء بالتعليم الجامعي والدراسات العليا، بل وتفوقهن في العديد من التخصصات العلمية والأكاديمية. إن تمكين المرأة علميًا يفتح أمامها آفاقًا واسعة لتكون شريكة في إنتاج المعرفة لا مستهلكة لها فحسب.

في مجتمعات كثيرة، أصبحت الفتيات يشكلن النسبة الأكبر في التخصصات العلمية الدقيقة كالرياضيات، الهندسة، الطب، والتقنيات الحديثة. هذا التحول يشير إلى كسر الصورة النمطية القديمة التي قيدت المرأة في مجالات تقليدية، كما يُمثل قوة كامنة في بناء اقتصادات وطنية قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية.

كما أن التعليم المستمر والتدريب المهني باتا ضروريين في عصر يتغير فيه سوق العمل بوتيرة متسارعة. وتُظهر الدراسات أن النساء اللاتي يحظين بفرص تدريب وتطوير مهني يتمتعن بمرونة أكبر في الانتقال بين الوظائف، والمساهمة في مجالات الابتكار وريادة الأعمال.

المرأة والابتكار التقني

أصبحت التكنولوجيا من أهم ركائز اقتصاد المعرفة، وتمثل أحد أعمدة التحول الرقمي الذي يشهده العالم. وعلى الرغم من الفجوة الرقمية التي ما زالت تعاني منها بعض النساء في المجتمعات النامية، إلا أن هناك طفرات ملحوظة في إسهامات المرأة في القطاع التقني والرقمي.

تشارك النساء اليوم في تطوير التطبيقات الذكية، البرمجيات، الذكاء الاصطناعي، علم البيانات، الأمن السيبراني، وغيرها من المجالات التكنولوجية الحديثة. لقد أثبتت المرأة أنها قادرة على قيادة مشاريع ابتكارية تتسم بالإبداع، المرونة، والبعد الإنساني، وهي عناصر أساسية في تصميم حلول معرفية تواكب احتياجات المجتمعات المعاصرة.

المرأة وريادة الأعمال في اقتصاد المعرفة

ريادة الأعمال تُعد أحد المحركات الرئيسة لاقتصاد المعرفة، وتُسهم في تحويل الأفكار والمعرفة إلى منتجات وخدمات تُحدث نقلة نوعية في المجتمعات. وتبرز في هذا السياق نماذج نسائية استطاعت تأسيس شركات ناشئة ناجحة في مجالات تكنولوجيا التعليم، الصحة الرقمية، التجارة الإلكترونية، والخدمات البيئية.

تُوفر ريادة الأعمال للمرأة مساحة لابتكار حلول قائمة على المعرفة، كما تُمكنها من تجاوز الحواجز التقليدية التي قد تحد من فرصها في التوظيف. وتبرز أهمية السياسات الداعمة لريادة الأعمال النسائية مثل تسهيل الوصول إلى التمويل، التشبيك، الحاضنات التكنولوجية، وبرامج التدريب، في تعزيز مساهمة المرأة في بناء اقتصاد مبني على الأفكار والقيمة المضافة.

المساهمة في البحث العلمي والمعرفة الإنتاجية

البحث العلمي هو أحد الأعمدة الاستراتيجية لاقتصاد المعرفة. وفي العقود الأخيرة، شهد العالم زيادة واضحة في عدد الباحثات والنساء المشاركات في الإنتاج العلمي، خاصة في المجالات الصحية، البيئية، والاجتماعية. ويُعد تنوع الفريق البحثي من العوامل المحفزة على التفكير النقدي والإبداعي، حيث تُقدم المرأة وجهات نظر تحليلية مختلفة ومكملة، ما يُعزز من قيمة النتائج البحثية.

كما أن المجلات العلمية العالمية والمؤتمرات المتخصصة بدأت تشهد حضورًا نسائيًا متزايدًا، وتقلدت النساء مناصب بحثية رفيعة تُسهم في رسم السياسات الوطنية للبحث والابتكار.

المرأة وصناعة القرار في منظومات المعرفة

يُعد إشراك المرأة في مواقع صناعة القرار عنصرًا جوهريًا في بناء اقتصاد معرفة شمولي ومستدام. إن وجود المرأة في مواقع القيادة على مستوى المؤسسات الأكاديمية، الشركات التكنولوجية، مراكز الابتكار، والهيئات الحكومية يُسهم في تحقيق توازن معرفي يُراعي التنوع والعدالة الاجتماعية.

كما أن قيادة المرأة للسياسات التعليمية والتكنولوجية تُسهم في تصميم أنظمة معرفية أكثر استجابة لاحتياجات المجتمعات، وتضمن أن تُستثمر الطاقات البشرية بأقصى قدر من الكفاءة.

التحديات التي تواجه المرأة في اقتصاد المعرفة

رغم التقدم الملحوظ، لا تزال المرأة تواجه عددًا من التحديات البنيوية التي تحد من مساهمتها الفاعلة في اقتصاد المعرفة، ومن أبرزها:

• الفجوة الرقمية بين الجنسين في بعض المجتمعات، مما يعيق استفادة المرأة من الفرص الرقمية.

• التمييز المؤسسي والتمثيل الضعيف في المناصب القيادية والبحثية.

• ضعف فرص التمويل للشركات الناشئة التي تقودها نساء.

• الأعباء الاجتماعية والأسرية التي تُعيق التفرغ الكامل للبحث أو ريادة الأعمال.

• نقص البرامج التدريبية الموجهة للنساء في التخصصات التكنولوجية الحديثة.

التوصيات والسياسات الموجهة لتعزيز دور المرأة

لضمان مشاركة فعالة للمرأة في اقتصاد المعرفة، هناك حاجة ماسة إلى تبني سياسات شاملة تُمكن النساء من الاندماج الكامل في جميع مراحل بناء المعرفة. ومن بين أبرز هذه السياسات:

• تعزيز التعليم النوعي للفتيات في مجالات العلوم، التكنولوجيا، الهندسة، والرياضيات (STEM).

• توفير حوافز للمرأة الباحثة وتمويل مشاريعهن البحثية.

• دعم ريادة الأعمال النسائية من خلال حاضنات موجهة ومبادرات تمويلية.

• إدماج النوع الاجتماعي في السياسات الوطنية للابتكار والتحول الرقمي.

• تمكين المرأة تكنولوجيًا عبر برامج التدريب والتأهيل المهني المستمر.

• تحقيق التوازن بين العمل والحياة الأسرية من خلال إقرار نظم عمل مرنة.

خاتمة

المرأة ليست عنصرًا ثانويًا في منظومة اقتصاد المعرفة، بل هي شريك رئيسي ومحرك جوهري لهذا الاقتصاد الجديد. إن تمكين النساء وتوفير بيئة معرفية تضمن لهن الإبداع والريادة يُعد من الشروط الأساسية لأي مشروع تنموي يسعى إلى تحقيق الاستدامة والعدالة. وكلما زادت استثمارات الدول في تعليم وتمكين النساء، زادت قدرتها على إنتاج معرفة محلية أصيلة، وبناء اقتصاد تنافسي وقائم على الإبداع.

المراجع

1. البنك الدولي. (2020). “تمكين المرأة في الاقتصادات القائمة على المعرفة”.

2. منظمة اليونسكو. (2022). “المساواة بين الجنسين والتعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا”.